الرسومات المسيئة للرسول والقانون
كتبت أفنان يونس عرجان/ باحثة في جامعه القدس
أثارت قضية نشر الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم – مؤخراً – في فرنسا إشكالية كبيرة، تتعلق بعدم وجود رادع قانوني؛ سواء في القانون الفرنسي أو القانون الدولي، يمنع الإساءة للأديان وازدراء رموزها. وقد ساهم موقف الحكومة الفرنسية المتعنت، ووقوف العالم كشاهد سلبي على الإساءات المتكررة للإسلام ورموزه، وسماحه باستخدام حرية الرأي والتعبير لتكريس تلك الإساءة، بإشاعة أجواء العنف والكراهية العنصرية حول العالم
الوقت الذي تلعب قوانين تجريم ازدراء الأديان عربياً دور “عصا السلطة” ضد أصحاب الآراء التي لا تناسبها، نرى قريناتها من مواد قوانين العقوبات في بعض الدول الأجنبية تلعب دور “صون المشاعر الدينية من الشعور بالإهانة، وحماية حريتَيْ العقيدة والتعبُد، والحفاظ على السلام المجتمعي”. فدول مثل الهند، أيسلاندا، اليونان، جنوب أفريقيا، إسبانيا، سويسرا وغيرها تجرّم بشكل مباشر وصريح الإساءة للأديان، ولكن من منطلق مراعاة مشاعر أهل كل دين وحمايتهم من التحريض على الكراهية أو ممارسة العنصرية
ودول مثل كندا، البرازيل، فنلندا، الدنمارك، فرنسا وغيرها تعاقب بالحبس كل من يرتكب فعل التصريح بخطاب فيه تحريض على كراهية شخص أو أكثر بسبب لونه أو دينه أو عرقه أو انتمائه الإثني. وتتشدد ألمانيا في مراعاتها فتفرض العقوبة على الفاعل وإن لم يكن ألمانياً، وإن ارتكب هذه الجريمة خارج الأراضي الألمانية. وبذلك لا يجرم القانون هنا التعرض للأديان في ذاتها فحسب، بل التعرض بالأذى لأية فئة بسبب انتمائها الديني أو العرقي.
وعلى الرغم من اتفاق معظم النظم القانونية في مختلف الدول على أن كل سلوك غير مشروع من قبل الافراد أو الكيانات المعنوية، ينتج عنه انتهاك وإساءة للأديان يعتبر انتهاكاً غير مشروع يوجب على الدولة طبقاً لالتزاماتها تجاه قواعد القانون الدولي لحقوق الانسان اتخاذ كافة التدابير والإجراءات، التي تحد من انتهاك الحريات الدينية والإساءة للأديان ورموزها، إلا أن النظام القانوني اللاتيني في فرنسا لا يتضمن قواعد واضحة ومباشرة تجرم ذلك
في نفس الوقت تمثل حرية الرأي والتعبير الحجة والمبرر اللذين تتذرع بهما الدول الأوروبية، لتبرير تقاعسها عن توفير الحماية ومنع الإساءة والتعرض للرموز الدينية، على الرغم من وجود عدد من الاتفاقيات والآليات الأوروبية لحقوق الإنسان، تؤكد على حماية الحرية الدينية؛ لأن نصوص تلك الاتفاقيات لم تأتِ ملزمة، كما هو حال اتفاقية حماية الأقليات القومية لعام 1995، التي جاءت قاصرة وغير منسجمة مع القانون الدولي لحقوق الانسان، بسبب عدم إلزامها الدول – الأطراف – بتطبيق أحكامها، إلا ضمن إمكانياتها وتبعاً لظروفها
وفي نفس الوقت، كثيراً ما تلجأ المحاكم الأوروبية – عند إصدار قراراتها في قضايا الإساءة للأديان – إلى لي عنق النصوص القانونية، والالتفاف على قواعد حقوق الانسان، وتقديم تفسيرات تجعل تقديس حرية الرأي والتعبير، مقدمة على حماية الحرية الدينية، ومنع الإساءة للرموز الدينية
أما بالنسبة للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، فإن هناك قصوراً في إيجاد التعريف القانوني المحكم لازدراء الأديان؛ بحجة أن.. «فعل» الإساءة للدين، هو فعل متغير زمانياً ومكانياً.. في ظل التغيرات والتطورات البشرية، وتبني أنواع جديدة من الأديان بصورة مستمرة، وبالتالي فإنها تستخدم مصطلح (الإساءة غير المبررة للأديان) بهدف تسخيف الجرم، والتهرب من مسؤوليتها في إحقاق الحق وإرساء العدل
قد اهتم القانون الدولي لحقوق الإنسان بحماية الحرية الدينية من خلال الكثير من النصوص والقواعد التي تؤكد حق الافراد في ممارسة الشعائر الدينية والتعبير عن أفكارهم عن طريق العبادة أو الممارسة أو التعليم، ولكنها – في نفس الوقت – تغاضت عن الإشارة إلى موضوع ازدراء الأديان ورموزها المقدسة. وهذا يمثل اعترافاً ضمنياً بأولوية حماية حرية الرأي والتعبير، وسُمُوِّها على الحق في احترام الأديان وعدم ازدراء رموزها، وهذه الإشكالية مازالت منطلقاً لحدوث التجاوزات والانتهاكات بحق الرموز الدينية
ومن المؤسف، أن يحاول فقهاء القانون الدولي العرب والحقوقيون – على الدوام في أدبِيَّاتِهم – الإسهاب في تفسير نصوص القانون الدولي لحقوق الانسان، وتكييفها وتجييرها للتدليل على أن تلك النصوص قد جرَّمتأو أدانت «فعل» الإساءة للأديان وازدراء رموزها من خلال تكييف فعل الإساءة بأنه يدخل في إطار «فعل» التمييز العنصري، وهذا – في حقيقة الامر – غير صحيح، ويجافي الحقيقة، ويسهم في إخفاء قصور تلك الصكوك الدولية عن معالجة أفعال الازدراء والإساءة للإسلام، وهو ما يتطلب منا جميعاً تكثيف الجهود القانونية والحقوقية – وحتى السياسية – بهدف إيجاد نصوص أكثر وضوحاً وأكثر دلالةً لتجريم ازدراء الأديان والإساءة إليها، والضغط على حكومات الدول العربية الإسلامية لتعزيز جهودها في المنظمات والهيئات الدولية، لإصدار مثل تلك القوانين؛ فكما أصبح إنكار الهولوكوست (محرقة اليهود) ومعاداة السامية جرماً، يحق للمسلمين – وغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى – أن يُجرم المساس بدياناتهم ورموزها
هذا المقال ينشر بالتعاون مع مركز أفق للدراسات والأبحاث
هذه المقالة تعبرعن وجهة نظر صاحبها ولا تمثل وجهة نظر مركز أفق للدراسات والأبحاث